معالجة النوازل بين حرفية النصوص ومعقولها.


رؤيتي أختارها بقناعة صوابها مع احتمال خطئها ورؤية غيري أحترمها مع اعتباري خطأها واحتمال صوابها.
بعد حركة تحويل مصابي فيروس كورونا أوالمشتبه بهم من كثير أنحاء العالم إلى الجزائر، وتحويل البعض داخليا من مدينة إلى أخرى لأجل الحجر الصحي في فنادق ومستشفيات ومراكز، حدثت ردود أفعال ومواقف، شددت النكير مع استدلال أعرج بنصوص منع تنقل المصابين، بغير فقه ولا دراية.
مثل ما ورد عن عبدالرحمان بن عوف قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه) متفق عليه.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الفارّ من الطاعون كالفار من الزحف، والصابر فيه كالصابر في الزحف) رواه أحمد.
وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذاسمعتم الطاعون بأرض، فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض، وأنتم فيها، فلا تخرجوا منها) متفق عليه.
طارحين معقول معانيها وعلتها التي يمكن توسيع العمل بمراعاة مآلها ومقصدها الشرعي، لا بحرفيتها.
وبعد طرح رؤيتي العلمية والفقهية على الأستاذ الدكتور فاتح ربيعي، وأستاذنا رفيق الدراسة الدكتور عمار جيدل، وفقيه المذهب المالكي أستاذنا المحترم ولدبابا علي بشير، وفقيهنا الأستاذ جمال مرسلي، وأستاذ التفسير شيخنا وأستاذنا محمد الأمين بوقلقال، واستشارتهم أردت بيان وجه صواب أوخطأ التمسك بنصوص شرعية في هذه النازلة، بين الحرف والتعمق في المآل والمقصد المعقول.
آملا في تعامل القراء الأعزاء مع الموضوع بمنطقية عقلية، لا بتعديته إلى تهمة الدفاع عن أحد،، لأنني أتناوله بالدراسة علما مجردا.
إن النصوص معقولة المعنى يمكن تعديتها إلى الوسائل والأساليب المتجددة، بعكس المتعلقة بالشعائر المتوقفة على معنى التعبد.
إن التفكير في المقاصد والمآلات ليس موهوبا لأيٍّ كان، فالعلم لا يسوقه غير أهله، بل من شروطها الظن الراجح في توقعها ووقوعها، لا الوهم والشك، فأحكام هذا الدين في الجانب الفقهي والأصولي مرهونة بالظن الراجح لا بالريب والتخمين.
ومنه تحقق علة وحكمة الحكم بنصه أواجتهاده، كما جاء في كثير من كتب الأصول ليس هذا مقام ذكرها.
ومن الحكم والفوائد المقاصدية المتوخاة من أحاديث الأوبئة هو منع الاتصال بين المصاب والصحيح، وإذا كانت الحياة في عهد النبوة وما بعدها بسيطة جدا إلى درجة تحققه بإجبار المريض على المكوث في بلد الإصابة، ومنع الصحيح من ولوجه، (ولو أن طاعون عَمَوَاس لم ينقشع إلا بالتجبل)، فإن هذا الأمر متسع الآن، تكفله كثير من الوسائل والأساليب، وهي في علم الأصول تأخذ حكم الغايات الشرعية، فإن عجزت عن إدراكها بطل اعتبارها.
ويعضده حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(لا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ علَى مُصِحٍّ) رواه البخاري.
والذي أعتبره مفسرا لما سبقه، بتحقق الحجر الصحي في أي مكان.
لأن النصوص السابقة الذكر تنهى عن الدخول والخروج الفردي الطوعي، يبينه سياق تكليف الفرد المصاب والصحيح، وليس الجماعي المنظم من قبل السلطة الحاكمة المسيرة لمثل هذه النوازل بالضوابط الصارمة الضامنة لسلامة المتعلقين بها بدء بسائق سيارة الإسعاف إلى منتهى العملية، لنضمن التطبيق الواقعي لهذا الحديث (لا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ علَى مُصِحٍّ)، ويجليه سياق تكليف راعي الإبل المريضة والصحيحة، الذي يقاس عليه الإنسان.
فالنصوص المستدل بها من قبل المهلوسين فقهيا كما ذكر الدكتور عمار جيدل لا تؤخذ بحرفيتها، وإنما بمقاصدها وتحقيق مناطاتها وحكمتها الصحيحة، لأن علتها عدم اختلاط المصاب بغيره، وقد تحقق في غالب الظن هذا المآل المتوخى بالحجر في أي مكان ولو بالنقل من مدينة إلى أخرى بأي مبرر مشروع، إضافة إلى ضمان أمن الغير من العدوى في البلد الموبوء والمستقدم إليه.
وحتى حديث (الفارّ من الطاعون كالفار من الزحف، والصابر فيه كالصابر في الزحف) السابق ذكره يدل بسياقه على الفرار الفردي، مع الصبر على قدر الله وهو الإصابة لكن بالتداوي، أملا في قدر الله وهو الشفاء،، ولا يعني أبدا التمسك بحرفيته إلا للفرد، أما جماعيا بالتنظيم والضمان فيتعلق الفقيه بمعقوليته ومقصده، ومنه إنقاذ الإنسان.
فماذا كان سيحدث لو لم تُنظم رحلات لنقل الجزائريين جماعيا إلى البلاد وتحويلهم على ذمة الحجر؟ أوتُرك المصابون في مكان يغلب على الظن وصول العدوى منهم إلى غيرهم؟
إنهم سيموتون في البلدان والمدن التي لا تضمن سلامتهم، ولا تحققها حرفية الاستدلال.
إنه من الخطأ الجسيم منع إيواء المشكوكة إصاباتهم في مراكز وفنادق، ولا تبرير لثورة احتجاج دون أهلية فقه في البرواقية والبليدة وغيرهما، بظاهر النصوص وإهمال مقاصدها، لأن (الإعمال أولى من الإهمال) كما جاء في الأصول، ولذلك جاز نقل المصابين من مدينة إلى أخرى انقداحا للمقاصد الشرعية في قرائح أهل العلم بالضمانات والضوابط الشرعية والطبية الصارمة التي تطبق حديث (لا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ علَى مُصِحٍّ).
لأننا إذا سلكنا هذا السبيل لقلنا ببقاء المصاب في بيته ولا ينقل إلى المشفى، وهذا لا يقول به عاقل.
إلا أنني أحب ضبط هذه الحيثية بقاعدة الضرورة تقدر بقدرها، فلا نستسيغ نقل المصاب إلا إذا غلب على الظن الراجح أن الإبقاء عليه في مكانه يعدي الإصابة بالتهاون وغيره، أوأن الهياكل المسخرة عسرت عن استقباله، أوأي عائق آخر تدركه السلطة ولا يدركها الفرد.
والضوابط منوطة بشروطها فإن عجزت الشروط عن التحقق بطلت.
فلا داعي لاعتبار التوقف عند ظواهر النصوص سنة، وإعمال معقولاتها ومقاصدها بدعة، ولا للمزايدة على الناس وعلى الشرع ممن ليس من أهله.
والله ورسوله أعلم.
هذه نظرتي أحسبها صحيحة تحتمل الخطأ، ولا أتألى على الله ورسوله.
الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

أحدث أقدم