من وحي العقل الهادىء

لا غرو إن استفدت كثيرا من دراستي لعلوم الشريعة في اختصاص أصول الفقه، كما استفدت كثيرا من فروعها وتفعيل قواعدها العامة على واقع الحياة في مختلف جزئياتها، ومن دراسة مقاصد الشريعة الغراء التي ترمي إلى رعاية مصالح العباد في العاجل والآجل بجلب المنافع وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها، والدراسة المفيدة من المصالح المرسلة التي رأيت غالب علماء أمتنا ومجتهديها عاملين بمقتضياتها واقعيا معتمدها ورافضها، للمقارنة بين المنافع والمفاسد والترجيح بينها، خاصة في المسائل الاجتهادية العارية عن النصوص والعلل، لأن كل سلوكات البشر تعتريها المنافع والمفاسد، والفاصل في العمل أوالترك هو الترجيح.
ولقد علمنا الله تعالى في كتابه الكريم ذلك في قوله تعالى(ومن ثمرات النخيل والاعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا) سورة النحل، وقوله تعالى(ويسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس) سورة البقرة، ورجح بقوله(وإثمهما أكبر من نفعهما)، وقوله تعالى(وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون).
ولأنني رأيت النفوس مصدومةً بعد إعلان السلطة الوطنية للانتخابات نتائج الترشيح للرئاسيات بعد فحص استمارات التوقيعات للراغبين في الترشح، فلم أدل برأي إلا النزر اليسير في بعض التعليقات على منشورات الأحباب.
ولأن وضع البلاد لا يحتمل الاستشاطة الصادة دون حجة، ولا القبول الموالي دون برهان، بل بإعمال العقل في وضع مريح هادئ جدا، ولو أثناء ارتشاف فنجان من البن أوكأس من الشاي، لتقليب النظر وتحوير البصيرة يمنة وشمالا، قبالة وخلفا، باعتبار إصدار القرار الموافق أوالمخالف أثناء غضبة، أوبطر، أونشوة، أوسرور، سينحرف عن الصواب إلى الخطأ، وربما عن الحق إلى الباطل، وعن العافية إلى الخطر.
لكل ما سبق أردت مع أحبابي تناول موضوع الانتخابات من عدمها، في سعة العقل، ورحابة التأمل من كل الجوانب، ثم لكل منا حريته في الموقف الذي يراه أقرب في نظره إلى الصواب، دون إلزام غيره، أوإنكار عليه فيما خالفه، فالاختلاف خلقه الله تعالى للتنوع لا للتضاد.
فلنتدبر سنن الله الكونية في التغيير أسبابا ومراحل، وحججا وبراهين، بالشجاعة في مساءلة أنفسنا، إن كنا حقا نفقهها ونخطو في سبيلها لا نتعداها، أم نجابهها؟، ثم نتألى على الله في دوام الفساد والضرر؟ وهل نريد حقا التغيير المتدرج الذي علمناه الله تعالى، أم السريع بجرة قلم، أويقظة حلم، أوصرخة ألم؟
فإن قوانين الكون لا تحابي أحدا، من وقف في طريقها صدمته، ولعلها صدمتنا مرات عديدة لاعتراضنا طريقها عوض السير فيه، فلم تسعفنا في أملنا، ونحن نظن أننا انتظرناه أعمارا مديدة.
أما مسألة نتائج السلطة المستقلة للانتخابات في ترسيم مترشحين من آخرين، ففي رأيي ينبغي التساؤل عن مدى دقة عملها من عدمه، بالأدلة لا بالتخمين المبني على الخلفية المعارضة أوالموافقة الجاهزة.
وهل لعبت الخبرة من عدمها دورها في حسم نصاب التوقيعات الشعبية للراغبين؟
وهل كان للهيكلة الحزبية من عدمها تأثير على التوزيع الأفقي للتوقيعات؟
وهل تقديم تسعة طعونٍ فقط دليل على صحة عمل السلطة مع الآخرين واعترافهم بالإخفاق؟
كما أنه من حق كل فرد أن يسائل الحراك الشعبي المخترق المشتت عن مدى مسؤوليته في انحسار عدد المترشحين المقبولين.
أما موضوع ظروف الانتخابات التي نشترطها، هل كانت كل مواقفنا أوأغلبها نابعة من الحنين العاطفي والركون المعتاد، أم من التحليل المنطقي المعتبر، اتفاقا أواختلافا؟
هل كل أوأغلب مواقفنا نابعة من التشنج والتعصب وحب الاعتراض، أم من النظر الثاقب والروية البعيدة؟
هل كل أوأغلب مواقفنا نابعة من البحث والتنقيب والاستفسار والاتصال والسؤال معارضة أومخالفة، أم من الأنا والاعتداد بالنفس والهوى وإلغاء أفكار الغير؟
هل فينا من قرأ واستمع لغيره بغربلة، أم بوضع صمام الصد قبالة عقله؟
لذلك في رأيي ينبغي التفكير بعقل هادئ في المشاركة ومآلاتها، أوالمقاطعة ومآلاتها.
ماذا نرجو من المقاطعة وماذا نخشى؟
ماذا نرجو من المشاركة وماذا نخشى؟
هل الوضع الداخلي في كل مجالاته والتأثير الإقليمي والدولي والأمني يسمح بالمقاطعة أم يدفع نحو المشاركة؟
هل الانتخاب هو بين خير وشر، بين نفع وفساد، فنختار الخير الراجح على الشر المرجوح، والنفع الراجح على الفساد المرجوح؟
أم هو بين شر وشر، بين ضرر وضرر، فنعمل بقاعدة دفع أعظم الشرين وأكبر الضررين بارتكاب أدناهما وإتيان أهونهما؟
هل نحن تحت طائلة ما خُيِّرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما؟
هل نحن مضطرون للاستلهام من بعض بنود صلح الحديبية التي قبلها النبي صلى الله عليه وسلم رغم ظاهر سوئها؟
إنها قواعد شرعية عظيمة يندرج تحتها جزئيات جمّة إلى يوم الدين، ما على مُعْمِلِي العقول إلا القياس عليها إن سلم مسار العلل والأوصاف الظاهرة الموافقة المنضبطة المناسبة، أما من لم يفقه ذلك فاليقين أنه سيتخذ المواقف إما بالتقليد أوبالإملاء الخفي أوالهوى أوالاستغفال الضار بمسار بلاد ودولة قارة كحجم الجزائر، من الجهتين.
لذلك أنصح إخواني الجزائريين بكل إخلاص وصدق وأخوةٍ، المعارضين منهم والموافقين، أن يعيدوا للعقل قيمته في الإدلاء إلى أفضل الخيرين، أوأهون الشرين، والوصول به إلى النتائج المطابقة للصحة، أوالقريبة منها، لأن المنطلِق من الهوى غافل أضلُّ من الأنعام، كما جاء في سورة الأعراف.
ولو أن يمسك الواحد منا ورقة وقلما في جلسة هادئة جدا، يدوِّن عليها كل المنافع المتوقعة من الخيارين، وكل المفاسد الناجمة منهما، وليرجِّح بحنكة فؤاده ورجاحة حكمته وحصافة عقله، ليصل إلى الموقف المبني على صلابة منطق لا الموهوم برعونة رغبة فقط.
وليقس المقتنعون بالانتخابات على ما سبق في الاختيار بين المرشحين إن اجتالتهم الحيرة في الأكفأ، إن بدا رفضهم جميعا، أوصُدِمُوا بعدم قبول من اعتمدوا على مروره إلى رسمية الترشيح.
إما بإعمال قاعدة القوة والأمانة المنصوص عليها في سورة القصص، للوصول إلى الأصلح ولو ظنا، أوبقاعدة الأهون ضررا إن لاح له عدم صلاحهم كلهم.
والخلاصة أن العقل مقدس، مميز بين الخير والشر، الحق والباطل، الصواب والخطأ، مستنفر للتحليل والتنبيه والملاحظة.

الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

أحدث أقدم