الدين لله والوطن للجميع.

حضرت درسا جمعيا في أحد الأسابيع وسمعت تنبيه الناس إلى خطر مقولة(الدين لله والوطن للجميع)، فاستأذنت إمام المسجد في التنبيه إلى ما يصلح منها وهو حق مما لا يصلح وهو حق يراد به باطل.      
وإذ نعي جيدا حقيقة المقولة، إلا أنني أعتبرها حقا من جهة أخرى إن عرف المسلم كيف يوظفها لتنقلب ترياقا على سحر أصحابها.
إن من سحرها قصدها منح الالتزام الديني للفرد من صلاة وصيام وذكر وأحوال شخصية ما لا يتعدى أثره إلى الحياة العامة في الحكم والسياسة والاقتصاد والتربية والتعليم والصحة والفلاحة والصناعة والتقنية وغيرها، على شاكلة (دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر)، وهي إحدى ملامح العلمانية اللائكية التي فُرِضَتْ على الأوربيين بعد كسر السيطرة الكنسية الجاهلة وجبروتها وتحريمها مختلف العلوم تجنبا لبروز أهل العلم المدنيين على رجال الدين، حفاظا على امتيازات سلطوية وأدبية ومالية، يخشون أفولها إن سطعت نجموم علماء مختلف المجالات، باسم الدين، جثمت على أوربا سنوات التخلف، حتى قيل الدين أفيون (مخدر) الشعوب، فجعلت السيادة بعد الثورات الأوربية للعلم(التقنية) والسياسة على الشعوب بدل سيادة الدين حيث منحت المواطنة فوق سلطانه، وهذا مفهوم بسبب فساد الدين نفسه عند أهل الكتاب المعاصرين، وهو الشق الأول.    
أما الشق الثاني فهو المفهوم الإسلامي لفكرة (الدين لله والوطن للجميع)، أي سيادة الدين وأحكامه، مع منح المواطنة لكل المجتمعات المنضوية تحت سلطانه، بمعنى الاعتراف لها بحقها في عيش المواطن كريما، لا يطرد ولا يحارب ولا تساء معاملته بسبب عرق أولغة أوعقيدة مخالفة، أونصرانية، أويهودية، لأن التدين في الإسلام لا يعني إلغاء أشكال كل العلوم، ولا يعني الكهنوتية التي كبلت أوربا في العصور الوسطى الممتدة من القرن الخامس إلى القرن الخامس عشر الميلادي، إنما يعني ديانة الأفراد والمجتمعات والحكومات لله ولتشريعات الإسلام، وهو ما يعرف بمدنية الدولة تحت سلطانه، إذ ليست دولة دينية تيوقراطية مثل دولة رجال الدين في أوربا.  
وهو ما نطقت به وثيقة المدينة المنورة بُعَيْدَ الهجرة، والتي نصطلح عليها الآن باسم (الدستور)، التي جاء في بندها الثاني: إنّهُمْ أُمّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ دُونِ النّاسِ.
وفي بندها التاسع عشر: وَإِنّهُ مَنْ تَبِعَنَا مِنْ يَهُودَ فَإِنّ لَهُ النّصْرَ وَالْأُسْوَةَ غَيْرَ مَظْلُومِينَ وَلَا مُتَنَاصَرِينَ عَلَيْهِم.
وفي بندها التاسع والعشرين: وَإِنّ يَهُودَ بَنِي عَوْفٍ أُمّةٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ وَلِلْمُسْلِمَيْنِ دِينُهُمْ مَوَالِيهِمْ وَأَنْفُسُهُمْ إلّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ فَإِنّهُ لَا يُوتِغُ إلّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ
. وعددت الوثيقة سائر قبائل اليهود كلها بأسمائها.  
فهذه هي أصول المواطنة للجميع في المفهوم الإسلامي التي تحمل معاني الحقوق والواجبات المتساوية مادام الناس شركاء في كثير من شؤون الدنيا.      
ولذلك لا ينبغي التحسس السلبي من قاعدة (الدين لله والوطن للجميع)، إذا فهمت على حقيقتها الشرعية، والتي تعني أن يكون كل الناس شركاء في المواطنة مع السيادة لله ولأحكامه تعالى بينهم.    

الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

أحدث أقدم