تناقضات الحريات


لا غرو أن تكفلت الإنسانية كلها والإسلام على الخصوص بالحريات العامة للبشر، وحتى للحيوان في نطاقه، والعقيدة أعظم مجال للحرية فيه، إذ حرم الإجبار على الاعتناق بدون اقتناع بعد الدعوة وتوفير فرص التعرف، عكس النصرانية التي فُرِضَ اعتناقها في الأندلس والتشيع الذي فُرِضَ على أهل إيران، على سبيل المثال.ووثيقة المدينة بعيد الهجرة تغص بضمان الحريات في إطارها العادي. ومن أمثلتها:
1/ وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم أو أثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
2/ وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.
فإن كان ذلك للاعتقاد، فمن باب أولى للفكر والتعبير عن مضمونه، خاصة في المسائل التي لا تقيدها النصوص قطعية الثبوت والدلالة، أما الاجتهادية فقد أفرزت نتائج فقهية وحلولا مختلفة لكثير من الإشكالات المتجددة مؤسسة على المصادر الموجهة إلى الصواب الظني فيها، ومما حرر فيه الإسلام الناس، الاقتصار على ما يجول في النفس مما هو منكر ما لم يتجاوز إلى الجرم لخروجه عن الوسع، ولم نجد بين الفقهاء المختلفين في اعتماد المصادر أوالنتائج إلا التجاذب العلمي مع منح هامش الصواب للآخر لعله يملك نسبة منه، والتماس العذر له في ظن مخالفه، دون التعدي إلى المجال الشخصي بالرمي والتجريح والتوصيف السيء ما دام الأمر يدور في فلك الصدق الخالص لصالح الحق والبحث عنه، لتحقيق منافع البشرية، كلٌّ كما يراها من زاوية الرأي، إلا المعاني السيئة المعادية للكيان الواحد، كالعمالة والتخابر والتعاون مع العدو والتدبير للجنايات والجرائم، فهذا له شأن أمني خاص، لا تنطبق عليه مسائل العذر والفسحة الفكرية والمعنوية لأنه سيتسلل تهديده إلى الإطار القومي والبشري والمصلحي العام.
وإن كانت هذه المعاني قد استوعبتها كثير من الكيانات والأمم والجماعات وجسدتها بينها لئلا تكسر اللحمة القومية.
فإن كثيرا من أطرفنا وأفرادنا لم تع هذا التلازم بين الحرية والتلاحم العضوي، كما لم يعه مشركو قريش حين اقتصروا بالحرية على أنفسهم فقط مانعين المسلمين من حرية اعتقادهم في المعبود الواحد.
مكرسين تناقضات الحريات كما كان عليه واقع الجبابرة من فرعون وقارون وهامان والنمرود وغيرهم.
وهو ما يترجمه واقع حراك الشعب نحو الانعتاق بعد اختراقه وتشتته، أين تحرر كل شيء من غير ضوابط تحفظ شعرة الود، وهامش تراجع كل متخالف حالة الشعور أوالتحقق من الخطأ.
وإن كانت بعض وسائل الإعلام نأت بنفسها عن استضافة نماذج الجرح دون التعديل، تجنبا لتلطيخ السمعة المهنية، إلا أن الشوارع ومواقع التواصل تحتشد بهرج ومرج جسيمين ينبئان عن مستويات متباينة لروادها ومستعمليها بتضاربات حرية التعبير والمواقف.
نشهد بسبب ذلك تمسك الفرد بحرية رأيه مع حرمان غيره منها، نسمع صيحات أطراف تضجّ بتسريح الحريات لكنها لا تكترث بغيرها لو ضُيِّق عليهم، وقد وقع في التسعينات، بل بسب وشتم ووسم المخالف بشتى أنواع الأوصاف السيئة، وكأن شؤون الفكر خلقت له فقط، ينتفض ضد الديكتاتورية وهو زعيمها، يسير في الشارع بحرية ويمنع غيره، يحمل ما شاء من الشعارات واللافتات ويمنع شعارات غيره، يحتل شوارع معينة ويمنع غيره، يقف ضد أومع فكرة ويلعن مخالف موقفه، يبرىء نفسه من العمالة ولو للأعداء ويتهم غيره ولو مع الخلان، يرسل الكلام ولو بهمجية ويمنع غيره عنه ولو بحكمة، يتزيى برداء الديمقراطية ويمنع غيره من صندوقها لعله لا يزكيه، يتحدث بلغة ولو كانت غريبة ويمنع غيره من لغة ولو كانت أصيلة، يخوّن غيره ولا يرضاه لنفسه، إنها تناقضات الحريات في زمن الرداءة والرويبضة، في زمن التهجم مع رفض التهجم.
إن الحل الذي أنصح به، أن نتناقش بالحب والاحترام والتماس الأعذار لكل من أبرز حب البلاد والصدق معها، وبدت له الأفكار كما يرى، في حدود الحفاظ على أمنها ووحدتها وحريتها واستقلالها واقتصادها.
كلٌّ يرى تسيير الأزمة من ركن براهينه المعتمدة، وهو حر، ليس للآخر منعه، لأنه سيقيد حريةً منحتها له الإنسانية والإسلام والمواثيق الدولية، بشرط الالتزام بالنتائج أوالإعلان عن الخطأ في رؤية الآفاق إن تبين له الصواب، دون تخوين ولا سب ولا اتهام إلا إذا أثبتت الأدلة الأمنية والواقع الملموس على تعامل مع الغير ضد البلاد ومصالحها، أونسج جرائم توقعها في الشراك، وإلا وقعنا في تناقضات الحريات.

الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

أحدث أقدم