ثقافة الاختلاف

التهارش الفكري والسياسي هذه الأيام ذكرني بالدكتور عبداللطيف المقداد الطبيب السوري في اختصاص العيون الذي كنت أسائله عن كثرة الطوائف في سوريا ولبنان فذكر لي أن ثقافة الاختلاف المذهبي عندهم أسَّسَت للبحث والتمكين للرصيد الذاتي عند كل طائفة لتبسط علومها وتفرض جدارتها ومدى صواب آرائها وتوجهاتها. 
هذا الوضع يصدق اليوم بجلاء في الجزائر بعد موجة الحراك الوطني الذي كان في اتجاه واحد، لكن ما إن أيقن العملاء الوكس المؤكد في الانتخابات بسبب أقليتهم، باشروا اختراق الجموع الشعبية بشعارات تؤجج الوضع وتعطل الوصول إلى موعد الصندوق مع محاولات الطعن في قيادة الجيش بعد الزج برؤوسهم من العصابة في السجن، تولد عن هذا جملة اتهامات متبادلة مست المذاهب وربما الأعراق والنوايا والخيانات والولاءات للمستعمر. 
هذا الوضع الخلافي لم يتوقف عند هذا الحد، بل امتد هشيمه إلى الأرصدة التاريخية، رفع شعارَها كلُّ متعصب لهويته وعمَّقَ البحث ونشره بين الناس لإثبات السبقِ الزمني في هذه الأرض على الآخرين، والقوةِ العلميةِ والفكريةِ، كلٌ بأدلته أرقاما وأياما وشهورا وأعواما وصورا لإفحام الغير، والحفاظ على صدارة الماضي. 
كما تعدَّى أثره إلى كثير من الشخصيات التاريخية تزكية أواتهاما قبل وأثناء الاحتلال الفرنسي مرورا إلى الميادين الحربية والسياسية لثورة التحرير انتهاء بالاستقلال وما تولد بعده. 
لقد وجدت في الجزائر ثقافة مثلها زمن التعصب المذهبي وإن كان ذلك بين المذهب المالكي والحنفي، والتوجه الإسلامي واللائكي بالخصوص، لكن تطور الحركة الفكرية التي أنتجها حراك اليوم منبهة. 
فإبان نشوء المذاهب الفلسفية والتشريعية تحدثنا الروايات عن تمكن علمي وأدبي عند كثير من المتعصبين استدلالا لصالح المذهب، ما كان ليوجد لولا هذا التمدد العلمي ونفور كل مجموعة إلى أشياخها انتصارا لهم، ما أعان على تنوع مسالك الاستنباط العلمي ولو للانتصار. 
وفي بلدانٍ تزخر بشتى الفرق المختلفة عقديا ومذهبيا نجد هيجانا بحثيا علميا لكل طائفة لترسيخ أصالتها وعلو كعبها على الآخرين، أنتج قوة علمية عند المنتمين. 
فسوريا والأردن ولبنان ومصر والعراق تصخب بالمسلمين السنة والشيعة والطرقية والأكراد واليهود والمسيحيين وأقباط مصر، يصعب إقناع عصبة بأفضلية الأخرى عليها أوعراقتها أوسبقها أوغير ذلك، ولو بالدليل لأنه سيقابله حجة ولو كانت شبهة. 
ولذلك نجد كل فرد على الغالب في هذه البلدان خصوصا على تشبع مكثف وثقافة عالية وعلم غزير بمكونات هوياتية وثقافية وفكرية وعقائدية وتاريخية وغيرها، يفوق بالتأكيد الجانب المعرفي لمعظم أفرادنا في هذه المجالات، بحكم انعدام الصراع ذاته في الجزائر عموما. 
ولذلك فإن كثرة الفرق كما له مفاسد على الوحدة الشعبية الوطنية، فله منافع وهذه إحداها، لأن التدافع المشار إليه في كلام الله تعالى يعني التعاون، والإثراء، ومنه تعزيز الشخصية الجمعية الذاتية من هذا الجانب. 
ولقد توفرت لنا فرصة هذا السجال بعد التحرر السياسي إلا أنها بقيت في الإطار الحزبي فقط، نتج عنها مراء في إطار البرامج الانتخابية، لم يفلح في لم الشمل على شيء منها بسبب التعنت الفئوي الخاص، ولو بوضوح الصواب عند الغير. 
والحرية ولو القليلة المحدودة تساعد على إيقاد الأفكار وانتشارها وتنوعها، مع مساحة معتبرة من التعبير الحر. 
وقد ينتج من ثقافة الاختلاف عندنا مستقبلا مبارزات لغوية إثر ترسيم اللغة الإنجليزية، بين أنصارها وأنصار اللغة العربية عند النخويين واللغة الفرنسية عند الموالين للمستعمر، سيفيدنا هذا السعار في توسع علمي لغوي يرجع بالنفع على مريدي اللغات. 
فهل ستقودنا ثقافة الاختلاف إلى ثقافة التعايش؟

الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

أحدث أقدم