الضباب المشكك أساس الخراب.


لئن كان الشك في الفقه الإسلامي محلّ خلافٍ في فاعليته بين العلماء، كتأثيره في استدامة أوبطلان الوضوء على سبيل المثال، فإنه مهلكة على مآل الأسرة، والعلاقات، والإدارة، والإرادة، والجوار، والمجتمع، وغيرها.
إن دورات التنمية البشرية وتطوير الذات تُصِرُّ على ضرورة تنظيف سبيل المشروع من الشك، قبله وأثناءه، لأنه أول معيق للبدء فيه والاستمرار عليه.
ومنه حرب العدو، إذ لا يمكن به لحامل السلاح المدجج العظيم الفتاك الثباتُ إقبالا على المعركة وصبرا عليها، وهو ما ينطبق على كل ما سِمَتُهُ البناء المستمر.
فهو يُذهل خشوع المصلي مع ربه لأن القلب منصرف إلى تحقق صحته من عدمها، أما الأسرة فلا استمرار لِوُدِّهَا به، وكلٌ يتوجس من الآخر، والقياس صالح على كل ما سبق لجميع العلائق البينية أوحتى الفردية التي لا تقوى على سير دون سقم إلى أن يحدث الانفصال عن المشروع والراحة منه، إن صدق المشكوك فيه، والخراب والدمار والندم إن كان المشكوك فيه وهما.
أذكر أن أحدهم استشار صديقا في استئناف مشروع الزواج وقد علم أنها كانت على علاقة بغيره قبل خطبته ما شكل له ضبابا على مبلغ المستقبل، فسانده قائلا: انظر إلى علاقتها الآن وهي تحت عصمتك، ودع عنك ما فعلته وهي أجنبية عنك، فانجلى ذلك وأسرع مبتهجا تاركا الشك لحظ الشيطان.
إن الحضارة التي يبادر لبنائها صفوة الرجال وتفتقر إلى سندِ يقينٍ جليٍّ من موافقي الفكرة والعقيدة، لا تقوى على النهضة إذا حوصروا في زاوية الريب من الفاعل والمفعول به بناء على نماذج مصير الماضي.
إن الأعين الثاقبة، عندما يغمض أصحابها أجفانها لن يتأتى لها النظر إلى الأفق إلا كغشاوة البحر تحجب عنها ملامح الشاطىء، تماما كالضباب الضارب سواده على المنخفضات.
كان والدي في صغري يوصيني أن أفتح عينيّ جيدا في أرصفة وطرقات العاصمة التي تغص بالمارة، كي أبصر المسارات والمخارج.
وقديما قالوا شفاء العيّ السؤال، ولم يدلّوا الجاهل يوما على الخنوع للستار المسدول على المشاهد كيلا تداهمه صوارف الدهر، ولئلا يحرم من نشوة العلم بها.
إننا في زمن لا يحسن التمارض بحيرةٍ لِعِلَّةِ بُعد مصادر العلم بالأحداث، أوللجزع من جراح السنين، رغم فوارق البلايا بين جلادي الظهور ومُرَبِّتِي الأكتاف.
إننا في منعرج يكره فيه التحجج بفيروسات السوالف و: (دعها فإنها مأمورة).
بينما يتجشم المنحرفون الدَّواهي بحلوها ومرها، ولا يثنيهم شك، لأن في الخلف حقا يُدَاهِمُ حَتْفَهُمْ، وفي الأمام بصيص نجاتهم، أما غثاء الأسوياء فيصطفون في طابور انتظار انقشاع الغمام، على أن ينعموا بالغُنْمِ إن تكرم الله بالظهور، أوبالخلاص من الغُرم، إن انقلب الشانئون بإحكام السطوة، إنجاءً للجلود من مصيرٍ شديدِ اللؤم محتومِ الألم.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو تسلل الشك إلى نبوته، والضبابية إلى آفاق النصر الموعود ما سلك خطوة نحو الدعوة.
ولو خار يقينُ الصُحْبِ الكرام ما أُعِينَ على تبليغ الرسالة وأداء الأمانة، ولو تخلل ريب بسيط إليهم استصحابا لحال ليالي الظلم وأهله، ما عضُّوا بالنواجذ على وحي يترى وسنة ترد.
وزعماء مجاهدينا سلكوا قبالة سبيل العِدَى ولم تَنِ لهم عزيمة ولم تهن لهم عقيدة، والقائد الجليل طارق بن زياد يقبل بجنوده رغم جسامة المغبَّة، والعدو من الوراء والبحر من الأمام، دون وجل ولا تضعضع.
استحضار سوءات الماضي واستدعاء معاركه مجازفةٌ تبريرا للتولي عن أداء الحاضر مشروع المستقبل، وما كان الله ليذر الناس على ما هم عليه.
إن عدم العلم ليس وسيلة الكلل عن التنقيب، ولا عامل خذلان الأحرار، ولا اتهامهم باستنساخ الماضي المفزع، ولا الذهول عن مكر الغادرين، والمكوث في زوايا الشك والهلع.
لأن صفة الخديعة ستنطلي على الطائفة المرجوة إن تقاعست عن النصرة بذريعة الشك المغفل للأحداث، والضباب المغطي لجهود الأشراف ولو بالكلمة.
وإن كان ولابد من التشكيك فليس ضد الصادقين الذين آلوا على أنفسهم ألا يألوا وسعا في الانتفاض من جلد المهزوم، وصوف الخروف الوديع المسجى للذكاة، ووبر الخيل الناظرة إلى السبع بإقبال، ورقاب الناس في مقهى تنتظر السفاح المغولي يسل سِكِّينَهُ لذبحهم دون ذود.
إن الماكث المراقب للمصير شبيه بالجاموس ينتظر جماعيا ما سيؤول إليه أمر فريسة الأسد، رغم القرون الطويلة الحادة، لأن غمام الهلع، وضباب غبار الكر والفر غشَّى النظرة فافتقدت السند.
إن الصادق المخلص المنهمك غفلةً عن العاقبة الجماعية بالانشغالات الفردية دون تحسس ولا سؤال ولا غيرة مساهم في تلاشي السواد.
ثم إنه بعد ذلك بتوهين الآملين الراجين كمن يُخَيِّبُ أمل الفكاك من العقال، ويشجع الشرذمة على المسير في سبيل آمن من الحرس.
وليكن له من البحث والتثبت ــ وقد أمر الله تعالى به ــ نصيبٌ للتعرف على مسار الشأن لعله يضاعف به الزخم، ثم اتخاذ الموقف المناسب للنتيجة، ولو بالمخالفة المؤسسة على اليقين المطلوب، لإسناد مثله، وهو مآل محترم، لأنه مبني للمعلوم لا للمجهول.

الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

أحدث أقدم