المسلمون وإشكالية القدوة.

أخطر شيء في حياتنا هو اختيار مصدر المعلومات، والعلوم، والأفكار والعادات، والخير والشر، والحسن والقبيح، وتسلسلها، مع قضايا الوجود، الله والكون والحياة والإنسان، تبعية وتقليد النواعق والصواعق، تظهر أمامنا فنعيش بشخصية مهترئة مضطربة تتجاذبها الأهواء، وتتلاعب بها التناقضات، ونتعرض لإستغلال جهات، دون قدرة على التمييز وتبصر طريق الهدى والنور، كالذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. كان الرعيل الإسلامي الأول متحدين عقديا وروحيا وسياسيا في إطار الدولة الواحدة، يحمون بيضة الإسلام، مقتدين بصاحب الرسالة فقط، دون استقطاب من آحادهم. ثم تفرقت انجذابات المسلمين بين القدوات، وتعددِ شخصياتها، من مُفْرِطَةٍ، ومفرِّطة، ومعتدلة، وسلمية، وحربية، ومستبدة، ومعارضة لكل سلطوي، ووسطية تمدح المحسن، وتنصح المسيء، وعرقية وجهوية، بلا حجج ولا براهين، ومن مريدٍ لله، مع صوابه، وخطئه، ومبتغي الشعبية، وممكن مذهبي، ومكتسب مالي، ومستهدف المكانات المختلفة. فاحتدم الصراع كثيرا، وتولدت تطرفات في هيئات فكرية وعقدية وتدينية، تشددوا مع أنفسهم، ومع غيرهم لإثبات الذات، وعملت على الاستفراد بأتباعٍ لاكتساب النصرة والتأييد، وابتغت الزعاماتية بقوالب تصاغ للاقتداء. أما المعتدلون فدعوتهم إلى الاقتداء بالحق والصواب، ومنحهم فسحة الحوار، والاختلاف، لتبادل النفع. لا أظن براءة مصادر تلك المهاترات بين المتطرفين، التي دسَّت قامات في أوحال الإهانة في إطار التوظيف السيء للحرية، فأصبحت المنابر والمنصات والأقبية والقاعات مراكز هدر كرامات الأفاضل، وحُجِرَ على العقول لأجل القدوات. أنتج تعدد القدوات والاقتداءات كثرة الطوائف، ووسائل النشر، إعلاميا، وصحفيا، وتأليفًا. مع التنابذ البيني، إلى احتراب انتصاري، إلى شتم كل عالم أوسياسي أوزعيم مهجور بمجرد ظهور بسيط، بمقال، أوتغريدٍ، أومحاضرة، أوندوة. حتى الموتى لم يسلموا من تشتت القدوات، وما لغو "مستراح منه" إلا مظهر جاهلي لآثارها. إن منتهى مبالغة الاقتداء اعتقاد العصمة، فإذا حدث خطأ القدوة صُدِمَ المقتدي بكارثة نفسية مفاجئة معقدة، قاصمة. وانبنى عليه أفول نجوم كثير من القدوات، حرم المجتمع من علومهم، وإخراج نمطيٍّ سيِّءٍ عن الإسلام، سيعيق بذل الجهود، وإبطاء فعالياتها، لتوجسات ضبابية في أذهان غير المسلمين، الذين اقتربوا من الإسلام، وتعرفوا عليه بالعدوان، أكثر من التطاحن والتباعد الداخلي المستفز لعقولهم نحو الحذر من دين يختلف أتباعه. ومنها تعدد تبريرات التقليد، والنَّسْخ العقدي والفقهي العلمي العملي، بتزكية القدوة الخاصة، عوض الاستدلال. وتعسير الحوار، وابتعاد فرص الالتقاء، وانقسام الأتباع في المسائل التشريعية، بالحياد، أوبالتجاسر على التحريم، والإباحة. وارتفاع منسوب التعصب، في زمن تحرر العقول، والحوار العالمي. لا وضع يريح المعنويات فكريا وعلميا وسياسيا كترك تعظيم القدوات واعتبار فردياتها نافعة في مجال اختصاصها قطعا أوظنا، لتجنب الصدمة الحالقة بوقوع الخطأ البشري الحتمي المتغافل عنه. أوجه عتابي للقدوات، المتقاذفة بالضلالة، ابتغاء المكانة، المخدِّرة للأتباع، عوض توجيه العقول نحو العلوم والمعارف، لتغترف من الأنفع للروح والجسد. نريد استدامة الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فقط، لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا /21/سورة الأحزاب. واعتبار القراءات مجرد فهوم، وبيانات بشرية، تؤخذ بموافقة الصواب، دون عقد تقليد ملزم. وتصحيح الوعي، نحو المصدرين الأصليين، والتحرر من زعامات عسَّرَتْ الاستقلال الذاتي بعد المبايعة المعنوية، وعدم ربط المصير العلمي والمعرفي بقراءة واحدة، لإجلاء التعصب، فالصواب والخطأ صفة كل آدمي. وتحرير العقول، وفتح القرائح، وتفعيل الاستدلال والانتقاء العلمي والسياسي، والإثراء والانتفاع، صيانة للتلاحم ومنعا للصدام المغلف بسراب واهم. وعلى المقتدين إعانة القدوات عل نفوسهم والشيطان، فما يسلم أحدٌ من العجب والغرور.

الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم