عقول المسلمين بين انعتاق أفكارهم وسطوة أسلحتهم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:    
من منافع الإسلام وتشريعه مرونته في حل مختلف المشكلات وفض المسائل، إذ أقرقيمة العقل ونبه إليها ومكنه من البحث والتحري والتفكير والاستنتاج والاستنباط والتدبر والفهم.     
لذلك أوكل كثيرا من القضايا إلى أفهام الناس والعالمين منهم بالخصوص، وأول ما أجل فيه العقل الاعتقاد وتحريم إجبار الناس على أن يكونوا مؤمنين.

قال تعالى في سورة يونس {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}99، وهذه قضية معسكر بدرالتي تدخل فيها خباب بن الأرت حين خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكانه ما دام الأمر يرجع إلى الحرب والمكيدة لا إلى الوحي الرباني، وأما الجد في السير إلى بني قريظة فقد ورد عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأَحْزَابِ: «لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ» فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمُ العَصْرُ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي، لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ، فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ فلم يؤاخذ مؤدي الرسالة طرفا نزولا عند حرية الفهم، ومصنفات الفقه تعج بحرية الألباب في تحرير نوازله.          
وعلى ذلك درج الصحابة والتابعون والعلماء وأرباب المذاهب:          

رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ: تُوُفِّيَتْ ابْنَةٌ لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَكَّةَ، وَجِئْنَا لِنَشْهَدَهَا وَحَضَرَهَا ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَإِنِّي لَجَالِسٌ بَيْنَهُمَا - أَوْ قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى أَحَدِهِمَا، ثُمَّ جَاءَ الآخَرُ فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِي - فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِعَمْرِو بْنِ [ص:80] عُثْمَانَ: أَلاَ تَنْهَى عَنِ البُكَاءِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ المَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» رواه البخاري  
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَتْ: رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ، وَاللَّهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيُعَذِّبُ المُؤْمِنَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ»، وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيَزِيدُ الكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ»، وَقَالَتْ: حَسْبُكُمُ القُرْآنُ: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «عِنْدَ ذَلِكَ وَاللَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى» قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: «وَاللَّهِ مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا شَيْئًا» رواه البخاري.   
هكذا وسع ديننا مجال الفهم حتى للنصوص، ولم نجد من يعنف أحدا على فهمه ولو اختلف معه، وهكذا دأب غيرهم مما لا أريد الإطالة به الكلام لأنه ليس من صلب الغرض. 
هكذا امتاز الإسلام بمرونة كبيرة بنيت عليها قواعد وأصول اجتهادية مكن بها المسلمون للإسلام مواكبة كل عصر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
إلا أن أدب الاختلاف وخلق التناظر انمحيا في زماننا، إلى درجة التناحر والتدابر، ورقيت كل المسائل إلى سلم الأولويات والقواعد الكبرى وهي ليست منها ، فلم يبق عند كثير من المتدينين الجدد شيء اسمه الفرع .    
غير أن المسائل تنقسم في هذا الشأن إلى:          
1/ ما لا يجوز فيه الخلاف كالقضايا العقدية الكبرى.          
2/ ما يجب فيه الخلاف كخلاف غيرنا في معتقداتهم.          
3/ ما يجوز فيه الخلاف، وهو كثير، لأن المباحات في التشريع أكثر من الواجبات والمحرمات.       
إلا أن فرقا شتى في عصورنا ابتدعت أمورا ثلاثة :
1 / التوسع في الفهم ولو على حساب القواعد والأصول والضوابط بحجة الحق في الحرية.  
2 / التضييق على الآخرين وإلزامهم برأي واحد ولو في مسائل الفروع الكثيرة التي يباح فيها الاختلاف المضبوط.          
3 / احتقار رموزنا وهم علماؤنا والدوس على مكانتهم.       

بهذه الانحرافات انبرت جماعات تطرفت حبا في الدين والتدين، وأخرى مأجورة وظفت من قبل أعدائنا تقوم مقامهم فينا تحمل اسم المنافحة عن الإسلام، تخدم أهدافهم درت أم لا .     
نشات فئات هادمة لعقائد المسلمين، وأخرى مبيحة لدمائهم وهي الأخطر، لأن الدماء هي ما يزلزل عرش الرحمان.        
أصبحت قاعدة: إن لم تكن معي ـــ ولو في الفروع ـــ فأنت ضدي، فثبت وسم الناس ووصفهم بأصناف خطيرة مكفرة مبدعة مفسقة .
انبنى على ذلك القتل بسبب إهدار الدم اجتهادا من جهلة لا يملكون أدواته ووسائله وأساليبه.  
فتاهت عقول المسلمين بين انعتاق أفكارهم وسطوة أسلحتهم. 
ولعلاج أمتنا من هذه العلل أقترح مايلي: 
1 / تسخير كل وسائل الإعلام لتعبئة الشعوب منها، مستعينين بالعلماء والدعاة المخلصين.  

2 / الشجاعة في كشف الطوائف المنضوية تحت ألوية أعدائنا والموظفة من قبلهم على مستوى العقائد المنحرفة والأعمال المسلحة.    
3 / التحلي بالنخوة والحمية الإيمانية للتنبيه على خطر موالاة غير المسلمين.      
4 / الإقدام على فضح الدول والهيئات المستعملة لمثل هؤلاء.
5 / توسيع تدريس العلوم الإسلامية الشرعية أكاديميا كي ينصرف الطلبة إلى الفهم العلمي للإسلام ومعرفة العدو الحقيقي من العدو الوهمي.     
بهذا يمكن لنا استخلاص ذوينا من براثن التحرش الداخلي والخارجي، وإنقاذ أفكارنا من ظلام الضلال، وسلامة دمائنا من أسباب إزهاقها، وإنجاد كياناتنا من وسائل دمارها بأيدي أولادنا.
الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

أحدث أقدم